رغيد أحمد الططري، طيّار سوري من مواليد دمشق في 25 ديسمبر/كانون الأول 1954، التحق بالكلية الجوية عام 1972 وتخرّج فيها بعد ثلاث سنوات، ليخدم في عدد من الأسراب العسكرية التابعة لسلاح الجو السوري.
اعتُقل الططري عام 1981 بتهمة "التحريض على عدم تنفيذ الأوامر العسكرية"، وهي تهمة شكلية، كانت كافية في زمن البطش لطمس أي صوت حر خلف جدران المعتقلات لعقود طويلة.
وبحسب "رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا"، فقد اعتُقل الططري قبل بلوغه سن السابعة والعشرين، وزُجّ به في سجون النظام السوري، فقد تنقّل بين عدة معتقلات، من بينها سجون إدارة المخابرات العامة وسجن المزة وتدمر وصيدنايا وعدرا المركزي، قبل أن يُنقل لاحقاً إلى سجن السويداء.
وجاء الإفراج عنه في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024، يوم سقط فيه النظام، وفرّ فيه بشار الأسد هارباً، بعد أن استكملت فصائل الثورة السورية سيطرتها على العاصمة دمشق، منهيةً حقبة سوداء امتدت 61 عاماً من حكم حزب البعث، و53 عاماً من استبداد آل الأسد.
في حديثه لوكالة الأناضول، استعاد الططري بصوت متهدّج تختلط فيه العاطفة بالوجع، تفاصيل سنواته الطويلة خلف الأسلاك، وما عنى له أن يخرج حراً بعد 43 سنة من الأسر.
قال: "لم نكن نمتلك حينها الوعي السياسي الكامل، لكن كنا نعرف تماماً ما الظلم، وكنا نرفضه بالفطرة، حتى وإن افتقرنا إلى أدوات التعبير. كان القهر واضحاً، وكان السكوت خيانة للذات، وهو ما لم يتسامح معه النظام أبداً".
ثم أضاف بأسى يلامس القلب: "قضيت أجمل سنوات حياتي في زنازين الموت. كانت تدمر وصيدنايا مقابر لا تبتلع الأجساد فقط، بل تحاول التهام الأرواح. ومع ذلك، لم أتخلَّ عن نفسي، ولا عن قناعاتي، ولا عن الإنسان الذي كنته".
حماة الرمز
وتحدث الطيار السوري رغيد الططري عن مدينة حماة بوصفها "رمزاً للقمع في الذاكرة الجمعية للسوريين"، لكنه شدّد على أن الألم لم يكن حكراً عليها، بل امتدّ كالنار في الهشيم ليطول معظم المدن.
قال: "ما حدث في حماة عام 1982 لم يكن سوى فصلٍ من مأساة وطن. الألم ذاته عرفته حلب، وذاقته إدلب، وعاشته دمشق وحمص. القمع كان واحداً، والدم واحداً، والعقاب واحداً".
ثم أردف: "ما ميّز حماة أن المعركة هناك حُسمت بوحشية غير مسبوقة، أُبيدت فيها قوى المعارضة المسلحة بالكامل، لذا بقي اسم المدينة محفوراً في الذاكرة بوصفها ساحة واحدة من أبشع المجازر في تاريخنا الحديث".
وعن لحظة خروجه من السجن، استعاد الططري تفاصيل اليوم الذي غادر فيه صيدنايا، أحد أكثر المعتقلات رهبة، متجهاً إلى طرطوس، ثم إلى دمشق التي دخلها حرّاً للمرة الأولى منذ أكثر من أربعة عقود.
قال: "خرجت لأجد الناس يلوّحون بأعلام الثورة، يغنون للحرية، ويمشون في الشوارع، كما لو أنهم ولِدوا من جديد. كانت المدينة تعج بالفرح. وعندما وطئت أرض دمشق، شعرت بشيء لم أعرفه من قبل… شعرت أنني في وطني. لأول مرة، شعرت أن هذه الأرض لي، ليست سجناً تُديره عقلية الاحتلال، ولا زنازين مقنّعة بزيّ الدولة".
الططري، الذي تنقّل بين جحيم تدمر و"المسلخ البشري" في صيدنايا، أكد أن فرحته الشخصية، رغم عمقها، لم تكن بحجم فرحة الناس بسقوط النظام.
قال: "كنت أراهم يحتفلون كما لو أن السجن الجماعي الذي حبسهم منذ عقود قد تهاوى دفعة واحدة. كانت نظراتهم تفيض فرحاً لا يُشبِه شيئاً. نعم، خروجي بعد 43 سنة مؤلم ومؤثر، لكنه كان تفصيلاً صغيراً أمام المعنى الكبير: حرية الوطن".
عام الأحلام
وفي حديثه عن عام 2024، وصفه الطيار السوري رغيد الططري بأنه "عام تحوّلت فيه الأحلام إلى واقع، عام نهض فيه الشعب من تحت ركام الإحباط والانكسارات".
قال: "نعم، تعثرت الثورة كثيراً، وتعرضنا لخيبات موجعة، لكن السوريين لم يستسلموا، بل انتفضوا من جديد كما تفعل الشعوب حين تدافع عن جوهر وجودها".
وأضاف: "حين وصلنا نبأ تحرير حلب، لم نصدق للوهلة الأولى. ظننّا أنها إشاعة أو خدعة. ثم توالت الأخبار: سقطت حماة، وانفتحت أبواب السجون... عندها فقط أدركنا أن المشهد يتبدل حقاً، وأن الصفحة الأخيرة من كتاب الطغيان تُطوى أمام أعيننا".
أما عن الدرس الأثمن الذي خرج به من تجربة الأسر الطويلة، فقد قال الططري بكلمات تشبه الوصية:
"تعلمت أن الإنسان لا يملك شيئاً في هذه الحياة أغلى من نفسه. لم أندم يوماً لأنني تمسّكت بذاتي، رغم كل ما مررت به من تعذيب وقهر. لم أبعْ قراري، ولم أخن جوهري، وهذا هو معنى الحرية الحقيقي: أن تظل سيد نفسك، ولو كُسرت عظامك، وأن تبقى واقفاً، ولو حاصرك الظلام".