ما زال البحر الأحمر يشكّل هاجساً أمنيّاً قويّاً لإسرائيل في سياق تفكيرها بالمهدّدات الاستراتيجية المتوقعة، فهو ليس حدوداً بحرية يمكن ضبطها بأنظمة وإجراءات ومنظومات تحكّمٍ وسيطرة، إذ إن الأمن البحري هو الأضعف في هذه المنظومات والأكثر اختراقاً أيضاً، ربما لصعوبة العمليات البحرية وكُلفتها العالية مقارنة بالعمليات البرية، لكن النشاط البحري يغري المغامرين على اجتياز العقبات السهلة إذا توفرت الإمكانات.
ولا تنسى إسرائيل كيف تدفقت الأسلحة المهربة من البحر الأحمر نحو السواحل الجنوبية لفلسطين في الستينيات والسبعينيات، ولم تستطع فعل شيء كبير إزاءها، ولولا اتفاقية كامب ديفيد والتزاماتها والتفاهمات الثنائية مع دول المنطقة لاتسع الخرق على الراتق، لأنه لا سبيل إلى إغلاق هذه الجبهة إلا بجهد إقليمي وانتشار أمني كثيف وتقنيات عالية.
ومصدر التهديد القائم الآن بالنسبة لإسرائيل يتمثل في انتشار عمليات تهريب السلاح في حوض البحر الأحمر انتشاراً واسعاً، ودخول دول ومافيات شبه رسمية إلى هذه الأسواق المربحة التي لا قوانين فيها ولا تقييدات بل هو العرض والطلب فحسب، كما أن بعض الدول تستخدم هذه الأوضاع للتدخل في شؤون المنطقة وتغيير أنظمتها كما يحصل الآن بالنسبة للسودان الذي يواجه أزمة كبيرة تستخدم فيها الدول المعادية البحر الأحمر لاستهداف أمن السودان واستقراره من خلال توفير كل الأسلحة المتاحة بما فيها المسيرات الهجومية والاستراتيجية وتسهيل عمليات شرائها بعيداً عنهم.
كما أن المنطقة تعج بعصابات عريقة لها خبرة بحرية قديمة ومعرفة بخريطة اليابسة البحرية وحركة التيارات والأنواء، وتستطيع التسلل إلى أي مكان بزوارق شراعية أو بمحركات صغيرة يصعب اكتشافها.
ويزيد الأمر سوءاً أن البحر الأحمر مليء بالجزر الصغيرة المتناثرة والجزر المرجانية القريبة من السطح التي يمكن أن تعمل بوصفها محطات إمداد وتخزين، لا سيما أن هذه الجزر الصغيرة الحارة الجافة التي تخلو من أي مظهر للحياة النباتية أو الحيوانية إلا من أسراب طيور متوطّنة تعشش في بعضها أو تجمعات لثعابين الجزر في بعضها الآخر مما يزهّد الناس المحليين في العيش فيها، لا تخضع لسيطرة مباشرة من السلطات المحلية، كما أن كثيراً منها خاضع لسلطة إدارية لهذه الدول وليس لسلطة سيادية كما هو مفصّل في قوانين الجُزر، ولا يعني الخضوع الإداري شيئاً في كثير من الأحيان لأنه لا يوجد أي خدمات أو سكان في المنطقة.
ولا يقتصر الأمر على البحر الأحمر، فامتداد البحر الأحمر نحو بحر العرب والمحيط الهندي يجعلها كلها جغرافيا واحدة متصلة ذات خصائص مشتركة، كما أن البحر هو العامل المشترك بين سكان السواحل البحرية، وكثيراً ما يتلاقون ويتصاهرون في عرض البحر، ولم تعد اليابسة ومحطاتها سوى مراكز لتزويدهم بالمؤن والحاجات الأساسية، وهم يستطيعون بلوغها دون الحاجة إلى جوازات سفر أو منافذ بحرية رسمية.
وقد زاد الوضع سوءاً أيضاً بالنسبة لإسرائيل أنها بسبب تورطها في عمليات إبادة جماعية مجنونة ضد الفلسطينيين في قطاع غزة فإن منظومات الأمن القُطريّة العاملة في البحر الأحمر لم تعد تكترث بمتابعة العمليات التي يعلمون أنها قد تكون موجهة لاستهداف الأمن الإسرائيليّ، وتغضّ الطرف عنها، وربما ساعدها بعضهم بطريقة غير رسمية، خصوصاً أنهم يعلمون أن الإدارة الأمريكية تخلّت نسبيّاً عن سياساتها الصارمة في ملف الأمن البحريّ.
إذ كانت إدارة بايدن السابقة قد عرضت على جماعة الحوثيين في اليمن من خلال الوسطاء وقف استهداف السفن الأمريكية والبريطانية والأوروبية ولم يتحدثوا عن السفن الإسرائيلية أو التي تتعامل مع موانيها، وهو الأمر الذي رفضه الحوثيون آنذاك بسبب تورطهم جميعاً في إسناد العمليات الإسرائيلية، ثم جاءت صفقة ترمب مع الحوثيين التي تأسست على الموافقة على الطلب الأمريكي الأول لتعزل سياق الأمن البحري الإسرائيلي عن سياق الأمن العالمي الذي تمثّله الولايات المتحدة.
وأصبحت إسرائيل عمليّاً مسؤولة عن شركاتها البحرية العاملة في سواحل إفريقيا الشرقية والغربية والجنوبية التي تعدّ من الشركات النشطة ولا سيما في مجال الخدمات اللوجستية، وأصبحت حاجتها ماسّة إلى إنفاقٍ ماليّ كبير لسدّ ثغراتها الكثيرة لأن حضورها الأمني في عالم البحار هو الأكثر انكشافاً في منظومتها الأمنية.
وبالتالي فإن خططها الراهنة تركّز على تعزيز حضورها المباشر في البحر الأحمر من خلال زرع عملاء على امتداد الضفتين البحريتين، وإنشاء محطات رصد سرية صغيرة في المناطق الوعرة، واستثمار علاقاتها السابقة في منظومات البحر القائمة في جنوب البحر الأحمر، كما ستزداد رغبتها في التعرف على خريطة المنطقة وطبقات سكانها الاجتماعية ووسائل التدخّل الاجتماعي فيهم، ولا يستبعَد أن تزيد حضورها غير القانوني في عالم المافيا البحرية والدخول في صفقات سلاح غير شرعية لضمان مكان لها بين العصابات العاملة بغرض التعرف عليهم واستقطابهم أو مدّ جسور نحو الطامعين منهم مما يعني أن إسرائيل ستضاعف أعمالها الاستطلاعية والاستخبارية وعملياتها أيضاً لترهق المنطقة أكثر بتدخّلاتها مما يتطلّب تنسيقاً إقليمياً عالياً لمواجهة تهديداتها القادمة.
وعلى دول حوض البحر الأحمر والدول الإقليمية المركزية في المنطقة أن تساعد في تنسيق ردع هذا النشاط الإسرائيلي النشط أساساً، فبيئة المنطقة وقبائلها ولغاتها وديانتها وثقافتها وأمنها القوميّ والمحلّيّ لا تتفق بالمرة مع التوجهات الإسرائيلية المرهقة والخطيرة، إذ يعلم الجميع أن إسرائيل لا تدخل منطقة إلا زادت العبء الأمنيّ عليها لكثرة أعدائها الذين يرغبون بشدة في الانتقام منها بسبب جرائمها الوحشيّة وإصرارها على ذلك دون رادع من دول العالم وهيئاته التي تدّعي حراسة أمن العالم وحماية الحقوق الأساسية للشعوب.
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كتّابها، ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.