ورغم أن الصواريخ الكروز جرى استخدامها تقليدياً عبر الطائرات الحربية، فإن هذا النموذج بات يواجه تحديات متزايدة، أبرزها التكلفة التشغيلية العالية للمقاتلات، والمخاطر التي تهدد حياة الطيارين خلال العمليات العسكرية. كما أن تعويض الخسائر البشرية أو المادية في حال تعرّض الطائرات للإصابة يمثل عبئاً مالياً وبشرياً كبيراً، يتطلب موارد ضخمة وجهوداً كبيرة.
في هذا السياق، اتجه عديد من الدول، ومن ضمنها تركيا، إلى تبني منصات إطلاق بديلة، أبرزها الطائرات المسيّرة والمركبات البرية.
وتوفر هذه المنصات دقة هجومية كبيرة بتكلفة تشغيلية أقل، ومستوى مخاطر أدنى، مما يمنحها أفضلية عملياتية في الحروب الحديثة.
وزُوّدت الطائرات المسيّرة التركية من الجيل الجديد بصواريخ متطورة من طرازات SOM وATMACA وKEMANKEŞ وÇakır، ما يمنح القوات التركية قدرة نارية دقيقة يمكن أن تغيّر معادلات القوة على الأرض.
وفي حديث مع قناة TRT Haber، قال الخبير في الصناعات الدفاعية، أحمد أليمدار، إن تركيا تشهد تطوراً ملحوظاً في مجال الصواريخ الكروز، مشدداً على أنها باتت تمثل ركيزة استراتيجية في قدرات الردع والهجوم لدى القوات المسلحة التركية.
وأوضح أليمدار أن الصواريخ الكروز التركية قادرة على الطيران على ارتفاعات منخفضة جداً، والانقضاض على الهدف من الزاوية المطلوبة، وهو ما يصعّب على أنظمة الدفاع الجوي التقليدية رصدها أو اعتراضها.
وأضاف أن هذه الصواريخ تستطيع تنفيذ مناورات تفادي الرادارات، وإطلاق شعلات حرارية (Flare) لخداع الصواريخ المعادية، وهي تقنيات استُخدمت بكثافة خلال الحرب الروسية-الأوكرانية.
كما أشار إلى أن تنوع الرؤوس الحربية، وقدرتها على إصابة أهداف بعيدة بدقة عالية، يجعل من الصواريخ الكروز سلاحاً فاعلاً في المعارك، وعنصراً حاسماً في تعزيز الردع الاستراتيجي.
وفي ما يخص المشاريع التركية قيد التنفيذ، أكد أليمدار أن أنقرة استثمرت خلال السنوات الماضية في بناء منظومة متكاملة من صواريخ الكروز، تلبّي احتياجات تشغيلية متنوعة. ولفت إلى أن بعض هذه المشاريع دخل الخدمة بالفعل، في حين لا يزال بعضها الآخر في مراحل التطوير.
ومن بين أبرز هذه المشاريع، أشار إلى صاروخ "Gezgin" بعيد المدى، الذي يُطوَّر بسرِّية تامة، مرجحاً أن يشكِّل طفرة في قدرات تركيا البحرية والجوية. كما أكد أن صواريخ SOM وATMACA وÇakır أحرزت تقدماً تقنياً كبيراً، ويجري حالياً دمجها ضمن مختلف المنظومات العسكرية التركية.
صاروخ "كمانكش" نموذجاً
نشرت شركة "بايكار" للدفاع الجوي مؤخراً مقطعاً يوثِّق اختباراً ميدانياً لصاروخ "KEMANKEŞ"، الذي وصفه سلجوق بيرقدار، المدير التقني في الشركة، بأنه "صاروخ كروز مصغّر يعتمد على تقنيات الذكاء الصناعي والتعلّم الآلي".
وأوضح بوراك أوزبك، رئيس فريق هندسة المنصات في "بايكار"، أن صاروخ "بيرقدار كمانكش" صُمم خصيصاً لتعزيز قدرات الطائرة المسيّرة "بيرقدار TB2" في تنفيذ ضربات دقيقة ضد أهداف استراتيجية، مضيفاً أن الصاروخ قابل للدمج أيضاً مع مختلف الطائرات المسيّرة التي تطورها الشركة.
وأشار أوزبك إلى أبرز ميزات الصاروخ، موضحاً أن الذخائر الموجهة بالليزر تتطلب من الطائرة الاقتراب من الهدف ورؤيته بصرياً، ما يزيد من احتمالية تعرّضها للخطر.
في المقابل، يتيح صاروخ "كمانكش"، بفضل قدرات الاتصال الجوي-الجوي بين المنصة الحاملة والهدف، تنفيذ ضربات دقيقة من مسافات بعيدة دون الحاجة إلى دخول المناطق الخطرة.
من جانبه، أوضح الخبير الدفاعي أحمد أليمدار أن "KEMANKEŞ" يمثّل نواة لعائلة صواريخ متعددة الاستخدامات، تتضمن حتى الآن نسختين رئيسيتين: "KEMANKEŞ-1" للاستخدام الجوي، و"KEMANKEŞ-2" للاستخدام البري.
وأشار أليمدار إلى أن النسخة الجوية "KEMANKEŞ-1" صُممت لمهاجمة الأهداف القريبة وضعيفة التدريع، بفضل وزنها الخفيف الذي يتيح للطائرات المسيّرة، مثل "بيرقدار أقنجي"، حمل أكثر من عشرة صواريخ دفعة واحدة منها، ما يمكّنها من شن هجمات متزامنة على أهداف متعددة وبتكلفة تشغيلية منخفضة.
أما النسخة البرية "KEMANKEŞ-2"، فهي صاروخ كروز يعمل بمحرك نفاث، ويُطلق من منصة متحركة، ليحلّق على ارتفاع منخفض ويستهدف مواقع استراتيجية خلف خطوط العدو.
ويمنح هذا التصميم الصاروخ مرونة تكتيكية عالية، وإمكانية النشر السريع في جبهات متنوعة لتنفيذ ضربات مباغتة.
وفي ختام حديثه، كشف أليمدار عن خطط مستقبلية لتطوير نسخة بحرية من صاروخ "KEMANKEŞ"، مشيراً إلى أن دمجه في المنصات البحرية التركية سيكون خطوة متوقعة، في ضوء المساعي المستمرة لتعزيز القدرات الهجومية للبحرية التركية بأنظمة ذكية وعالية الدقة.
"أقنجي"
تُعد الطائرة المسيّرة "بيرقدار أقنجي"، التي تنتجها شركة "بايكار" التركية، من أبرز النماذج على الطائرات من دون طيار القادرة على حمل كميات كبيرة من الذخائر. إذ تصل الحمولة المفيدة للطائرة إلى نحو 1.5 طن، ما يمنحها قدرة هجومية مرنة ومتعددة الاستخدامات.
وقد حققت "أقنجي" خلال السنوات الأخيرة سلسلة من الاختبارات الناجحة لصواريخ متطورة، كان أبرزها إطلاق صاروخ TRG-230-İHA، من إنتاج شركة "روكيتسان".
ويتميز هذا الصاروخ بقدرته على إصابة أهداف على مسافات تتجاوز 100 كيلومتر بدقة عالية، ويُعد أول صاروخ تركي فوق صوتي (Supersonic) يُطلق من الجو نحو أهداف أرضية.
وفي مارس/آذار 2024، أضافت "أقنجي" إنجازاً جديداً إلى سجلها، حين نفَّذت بنجاح اختبار إطلاق لصاروخ "تشاكير" (Çakır)، وهو صاروخ كروز جرى تطويره محلياً أيضاً من شركة "روكيتسان".
وانطلقت الطائرة من مركز الاختبارات في "تشورلو"، وأطلقت الصاروخ باتجاه هدف يبعد 100 كيلومتر في ميدان الرماية بمدينة سينوب.
وتمكن الصاروخ من إصابة هدفه بدقة فوق مياه البحر الأسود، بعدما بلغت سرعته نحو 800 كم/ساعة، في تجربة وُصفت بأنها خطوة متقدمة في تكامل المنظومات الهجومية الجوية التركية.
ويؤكد الباحث في الصناعات الدفاعية، يوسف أقبابا، في تصريحات لشبكة TRT Avaz، أن أهمية هذه الإنجازات لا تقتصر على أداء الصواريخ فحسب، بل تشمل أيضاً المنصة الحاملة نفسها -أي "أقنجي"- لما تمتلكه من مواصفات فنية متقدمة وتكلفة تشغيلية مناسبة.
ويضيف أقبابا أن الدمج بين طائرة هجومية فعالة مثل "أقنجي"، وصواريخ موجّهة فوق صوتية منخفضة التكلفة مثل TRG-230-İHA، يُشكل نقلة نوعية في مجال الضربات الدقيقة بعيدة المدى، ويمنح القوات المسلحة التركية قدرة فتك عالية ضد أهداف استراتيجية، ضمن معادلة تجمع بين الكفاءة التقنية والجدوى الاقتصادية.