وحسب متابعات ميدانية، فإن المنطقة العازلة التي أقامها الاحتلال قبل وقف إطلاق النار في يناير/كانون الثاني الماضي، تمتد بعمق يتراوح بين 800 متر وكيلومتر واحد داخل أراضي غزة، وتُمنع أي حركة فلسطينية من القرب منها.
ومع استئناف الاحتلال عدوانه على القطاع في مارس/آذار الماضي، اتجه إلى تنفيذ استراتيجية مزدوجة: الأولى تتمثل في توسيع نطاق المنطقة العازلة داخل غزة؛ والأخرى في إعادة احتلال محاور عسكرية سابقة وفتح محاور جديدة تخدم أهدافه الأمنية والتكتيكية.
كان جيش الاحتلال الإسرائيلي قد شقَّ في وقت سابق محورين رئيسيين داخل القطاع: "محور نتساريم" الذي يفصل شمال القطاع عن جنوبه، وقد أعاد الجيش السيطرة الكاملة على نصفه، في حين يفرض سيطرة نارية على النصف الآخر. و"محور فيلادلفيا" الممتد على طول الحدود بين غزة ومصر، وهو المحور الذي أعادت إسرائيل احتلاله بالكامل.
وفي تصريح لصحيفة وول ستريت جورنال، نقلت الصحيفة عن مصادر عسكرية إسرائيلية أن الجيش يتبنى حالياً استراتيجية دفاعية محدثة تقوم على الحفاظ على وجود عسكري دائم في المناطق التي يعدّها "مطهَّرة من التهديدات"، في إشارةٍ إلى المناطق التي جرى تفريغها من السكان أو العمليات القتالية فيها.
وأوضحت الصحيفة أن هذه المقاربة تمثل تحولاً كبيراً في سياسة الاحتلال في بدايات الحرب، التي كانت تعتمد على التنقل المرن للقوات بين المحاور دون نية معلنة لاحتلالها أو الاحتفاظ بأراضٍ داخل القطاع.
لكن، وفقًا لتحليلات أمنية إسرائيلية أوردتها الصحيفة، يبدو أن إسرائيل تسعى إلى فرض واقع ميداني على الأرض يُمكن استثماره في المفاوضات السياسية مع حركة حماس.
ورغم ذلك، يطرح محللون تساؤلات جدية حول مصير هذه المناطق في حال فشل الوصول إلى اتفاق سياسي، في ظل غياب رؤية استراتيجية واضحة لكيفية التعامل مع هذا "الاحتلال الزاحف"، وسط تحذيرات حقوقية ودولية من أن هذه الإجراءات تُكرّس واقعاً استيطانياً جديداً داخل القطاع.
"محور موراج"
يواصل جيش الاحتلال الإسرائيلي توسيع نفوذه على طول ما يُعرف بـ"محور موراج"، الذي يمتد من الحدود الشرقية لقطاع غزة مع إسرائيل حتى شاطئ البحر غرباً، مروراً بموقع المستوطنة الإسرائيلية السابقة "موراج"، التي جرى تفكيكها في انسحاب عام 2005.
وحسب تقارير ميدانية لإذاعة جيش الاحتلال، فقد بلغ عرض الطريق في بعض مقاطعه ما يصل إلى كيلومترين، مع استمرار أعمال التوسع جنوباً باتجاه مدينة رفح، دون أن تصل بعد إلى خان يونس شمالاً.
ونقلت الإذاعة عن مراسلها قوله إن "أحياء كاملة في رفح لا تزال قائمة"، ما يشير إلى أن العمليات العسكرية لم تشمل المدينة بالكامل حتى الآن.
وأكدت الإذاعة أن الجيش الإسرائيلي بدأ بإقامة أبراج مراقبة على طول الطريق، يمكن مشاهدتها من مسافات بعيدة، في خطوة تهدف إلى تعزيز السيطرة الميدانية وتوسيع النفوذ العسكري داخل القطاع.
وفي تصريح له في 14 أبريل/نيسان الجاري، أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس، أن قوات الجيش سيطرت بالكامل على "محور موراج" خلال عطلة عيد الفصح، معتبراً أن المنطقة الممتدة بين محوري “موراج” و”فيلادلفيا” أصبحت فعلياً جزءاً من "الحزام الأمني" الإسرائيلي.
وأشارت إذاعة الجيش إلى أن المحور بات يشبه من حيث الشكل والدور "محور نتساريم"، الذي يفصل شمال قطاع غزة عن وسطه. ووفق التقرير، جرى تعبيد 6 كيلومترات من أصل 12 كيلومتراً، فيما لا تزال أجزاء واسعة من الطريق ترابية، كما ظهر في مقطع مصور نشرته الإذاعة على منصة إكس.
وفي سياق العمليات الجارية، تنشط في المنطقة الفرقة 36 التابعة لجيش الاحتلال الإسرائيلي، وتحديداً ألوية غولاني، وغفعاتي، واللواء 188.
وفي حديث لموقع Ynet، قال الرائد "ع"، نائب قائد كتيبة روتيم التابعة لغفعاتي، الذي يشارك في العمليات بحي الشابورة -أحد الأحياء الرئيسية الثلاثة في رفح- إن الهدف من هذه العمليات هو "تدمير ما تبقى في المدينة".
وأضاف الرائد أن هذه العمليات تُعد، من وجهة نظره، "شرطاً أساسياً لعودة سكان المستوطنات في غلاف غزة إلى منازلهم"، في إشارةٍ إلى السياسة الأمنية التي تربط بين العمليات العسكرية في القطاع وتأمين محيط المستوطنات الإسرائيلية القريبة.
شمال قطاع غزة
في تقرير نشره موقع واللا العبري، نقلاً عن مصادر عسكرية إسرائيلية، أُفيد بأن جيش الاحتلال الإسرائيلي بدأ منذ السبت الماضي بتوسيع عملياته شمال قطاع غزة، ضمن تحضيرات لمناورة عسكرية محتملة تهدف إلى تقسيم مدينة غزة إلى قسمين.
وحسب تلك المصادر، فإن الجيش بات يفرض سيطرته على نحو 40% من مساحة القطاع، في وقت تُنفّذ فيه عمليات تفجير وهدم ممنهجة لمبانٍ في عدة مناطق، مع تركيز خاص على الحدود الشمالية.
من جهتها، ذكرت صحيفة مكور ريشون أن الجيش أنشأ ما تُعرف بـ"المنطقة الشمالية العازلة"، وهي شريط أمني يمتد لمسافة كيلومترين، يفصل بين شاطئ زيكيم والقطاع، ويقع ضمن مناطق كانت تضم سابقاً مستوطنات إسرائيلية مثل إلي سيناي، ودوغيت، ونسنيت.
وحسب الصحيفة، تهدف هذه الإجراءات إلى توسيع نطاق السيطرة الميدانية وتعزيز العمق الدفاعي حول مستوطنات غلاف غزة، لا سيما بعد الهجمات التي تعرّضت لها في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
في السياق نفسه، تنشط فرقتا القدس و401 في أحياء الشجاعية والدرج-التفاح شرقي مدينة غزة، حيث تُركز العمليات هناك، وفق ما أوردته مكور ريشون، على تحصين الخطوط الدفاعية الإسرائيلية وتمهيد الأرض لهجوم محتمل في المستقبل.
وتسعى هذه القوات، حسب التقرير، إلى السيطرة على المرتفعات الشرقية لمدينة غزة، بهدف ضمان تفوق ميداني يمكّن الجيش من مراقبة وتحجيم تحركات الفصائل الفلسطينية، وتأمين مستوطنات الغلاف من أي تهديدات محتملة.
هدف للمقاومة
وكشفت صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية عن أن جيش الاحتلال الإسرائيلي أنشأ خلال العام الأخير نحو 15 موقعاً عسكرياً جديداً داخل ما تُعرف بـ"المنطقة العازلة" الممتدة على طول الحدود الشرقية لقطاع غزة.
وتُعرَف هذه المواقع في الأوساط العسكرية باسم "القواعد الميدانية الأمامية"، وتشكل، وفق الصحيفة، جزءاً أساسياً ممَّا بات يُعرف بـ"الحزام الأمني الجديد" الذي أقامه جيش الاحتلال داخل أراضي قطاع غزة.
ويمتد هذا الحزام من معبر إيرز شمالاً حتى معبر كرم أبو سالم جنوباً، في محاولة لفرض واقع ميداني جديد يمنح الجيش عمقاً أمنياً وتشغيلياً داخل القطاع.
وتُحذر الصحيفة من أن هذه المواقع، رغم ما توفره من تمركز عسكري، تبقى أهدافاً معرَّضة لهجمات المقاومة الفلسطينية، في ظل انتشارها داخل مناطق مكشوفة وقريبة من خطوط التماس مع الفصائل المسلحة.
وتضيف أن إمكانية تكرار هجمات مفاجئة أو عمليات اختراق أمني لا تزال قائمة، خصوصاً مع صعوبة تحصين هذه المواقع بالشكل المطلوب.
ويؤكد ضباط في جيش الاحتلال أن هذه المواقع "ثابتة ومأهولة ويمكن رصدها بسهولة من الجانب الغزّي"، ما يجعلها هدفاً سهلاً للهجمات. ويقول أحدهم: "من الأسهل بكثير على العدو مهاجمة مواقعنا الثابتة داخل المنطقة العازلة، فهي تحت مراقبة مستمرة من غزة".
جاء هذا التحذير بعد يوم واحد فقط من إعلان كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، تنفيذ كمين مسلح استهدف قوة إسرائيلية شرق بلدة بيت حانون، أسفر عن إصابة عدد من الجنود ومقتل أحدهم، في مؤشر واضح على هشاشة "الحزام الأمني" الجديد أمام ضربات المقاومة.